تاريخ : 4/3/2016 12:00:00 AM
معرف المحتوى: 678
الشريف المرتضى؛ شخصيّته، وابتكاراته، وتأثيراته في حوار مع حجة الإسلام والمسلمين الدكتور محمّد تقي سبحاني

الشريف المرتضى؛ شخصيّته، وابتكاراته، وتأثيراته في حوار مع حجة الإسلام والمسلمين الدكتور محمّد تقي سبحاني

الدكتورمحمّد تقي سبحاني في سطور

وُلد الدكتور محمّد تقي سبحاني في شيراز في عام ۱۹۶۳م.

بدأ دراسته الحوزوية منذ عام ۱۹۸۲م في قم. حيث حضر دروس حضرات الآيات: الحاج الشيخ جواد التبريزي، وحيد الخراساني، سيد کاظم الحائري، حسن زاده الآملي، جوادي الآملي، مصباح اليزدي.

حصل على شهادة الماجستير في «فلسةالدين» منمؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحوث، وشهادة الماجستير في «الفلسفة الإسلامية» وشهادة الدکتوراه في «الفلسفة المقارنة» من جامعة تربية المدرسين في قم.

والى جانب التدريس والبحث في المجالات المذكورة، كانت له حتى الآن اسهامات مؤثّرة في عدة مراکز للتعليم والبحوث، وهي كما يلي:

۱. مدير البحوث في مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحوث وعضوية قسم الدراسات الدينية(۱۹۹۴ـ ۱۹۹۶م)؛

۲. مديرمرکز البحوث الإسلاميةفي الإذاعة والتلفزيون (۱۹۹۴ـ ۲۰۰۱م)؛

۳. رئيس المعهد العالي للعلوم والثقافة الإسلامية، والمعاون البحثي لمكتب الإعلام الإسلامي (۲۰۰۱ـ ۲۰۰۹م)؛

۴. مدير معهد کلام أهل البيت (عليهم السلام)، في المعهد العالي للقرآن والحديث (منذ عام ۲۰۱۱م إلى الآن).

۵. رئيس جمعية الکلام الإسلامي (۲۰۱۰ـ ۲۰۱۳م)؛

۶. مدير مرکز الحضارة في لبنان (۲۰۱۰م إلى الآن)؛

۷. مدير مؤسسة الإمامة الثقافية (۲۰۱۱م إلى الآن).

أجرينا معه حواراً حول شخصيّة الشريف المرتضى، خاصّة في الجانب الکلامي، وابتكاراته ومدى تأثيراته.

 

* سماحة الأستاذ! كيف تقيّمون مكانة الشريف المرتضى بين علماء الشيعة؟

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله علي محمّد واله الطاهرين. إذا أردنا التعريف بشخصيّة الشريف المرتضى إجمالاً فلا بد من القول: إنه من شخصيات الطراز الأوّل في عالم التشيّع وفي تاريخ الشيعة.

وبعبارة اخرى، لو اردنا ذكر عشر شخصيات كبرى عند الشيعة على امتداد التاريخ فلاشك في أن الشريف المرتضى واحد منهم. وسيتضح سبب هذا التقييم في ما سيأتي من الكلام، ولكن ما يمكن قوله هنا هو ان الشريف المرتضى مدرسة؛ فهو ليس مجرّد مفكّر ومنظّر علمي فحسب، بل انه هو من صاغ الإطار الفكري والنظري للإمامية في مجالي الفقه والكلام. وهذا مما يميّزه عن الكثير من الشخصيات الشيعية.

صحيح انهم يقولون إنّ مرتكزات الكلام والفقه عند الإمامية قد وضعت من قِبل استاذ الشريف المرتضى ـ وهو المرحوم الشيخ المفيد ـ غير أن ما سيتّضح لنا أكثر هو أن من رسّخ عملياً ذلك الإطار العلمي والمنهجي، بل وأحدث فيه تحوّلاً سياسياً وحوّل الفكر الشيعي إلى مدرسة علمية، هو الشريف المرتضى. وعلى كل حال فان الشريف المرتضى يمثل منعطفاً مهماً في تاريخ كلام الإمامية ـ وان كنت انه كذلك في الفقه أيضاً ـ بحيث انه في الكثير من المباحث ومنها في الإطار المعرفي والمنهجي يفصل ماضيه عن مستقبله ويطرح الكثير من الابتكارات والرؤى الجديدة.

* أشرتم إلى ابتكارات السيد المرتضى وابداعاته، فهل يمكن أن تقدّموا لنا المزيد من التوضيح حول مميّزاته؟

هناك في شخصية السيد المرتضى عدّة خصال نتج عن المزج بينها شخصية متميّزة في تاريخ الإسلام والتشيّع. منها مثلاً «الجامعية العلمية» إذ كان لديه تبحّر وتخصص في جميع العلوم الإسلامية التي كانت سائدة في عصره.

ومن جانب آخر كان هناك «الحضور الاجتماعي والتأثير» للشريف المرتضى، وهذه خاصيّة تميّزه عمن سبقه مثل الشيخ المفيد، وعمن جاء من بعده مثل الشيخ الطوسي. ولعلّه كان أوّل عالمٍ من بين علماءالطراز الأوّلمن الشيعة، من بعددورحضور الأئمة المعصومين، يتقبّل مسؤولية اجتماعيةوسياسية. فقد كان منصب «النقابة» في بلاط الخلافة العباسية، مدعاة لدخوله وإرتباطهمع السلطة السنّية ومع كبار شخصياتأهل السنّة. وهذا مما جعل الشخصيّة الإجتماعية والمؤثرة للسيد المرتضى، متمايزة بشكل تام عن أقرانه في تلك الحقبة التاريخية. وهذا ليس على صعيد الحضور الإجتماعي فحسب، بلالشريف المرتضى ـ کما أعتقد ـ كان متميزاً أيضاً من الجانب النظري والواجهة الإجتماعية.فأنا أعتقد انه كان أوّل عالم على هذاالمستوى يكتب علانية رسالةفي جواز التعاون مع السلطان، ويُثبت امكانية المشاركة والتعاون في بعض الظروف الخاصة مع السلطة الجائرة،بل ويبدو ذلك ضرورياً في بعض الحالات.

الميزة الثالثة للسيّد، تأکيده على مجال «المنهجية العلمية». ولعلّ هذا هو السبب الذي جعله ينأى عنالتاريخ الماضي للشيعة، في حقل الکلام وفي حقل الفقه.ففي المجال المنهجي حول السيد وضع أُسس للفهم الديني تقرّب بين الشيعة وأهل السنّة لأجل الوصول الى نوع من التفاهم المنهجي. ولعل الفرصة تؤاتينا لاحقاً للإستفاضة في شرح هذه المسألة وإبراز نتائجها ومعطياتها، حيث سعى للأخذ بالقواعد التي تكون موضع اتفاق بينعلماء الشيعةوأهل السنّة. وإن كان يحاول بكلّ فطنة توظيف هذه القواعد لخدمة الإستنباط وإثبات صواب التعاليم الشيعية.

على سبيل المثال، «عقلنة المنهج الكلامي»ـ الذي حمل رايته الشريف المرتضى أيضاً من بعد الشيخ المفيد، وسار به خطوة نحو الأمام ـ يمثّل واحدة من هذه المعالم والمؤشرات؛ حيث أخذ الشريف المرتضى بالقواعد السائدة في کلام المعتزلة ويمكن في الوقت ذاته قبولها من وجهة النظر الشيعية؛فوجوب النظر، وقاعدة اللطف، وامتناع توارد القدرتين على مقدور واحد، وما الى ذلك،كلّها من هذا القبيل. وهذا النهج لا ينحصر في علم الکلام فحسب،بل أن الشريف المرتضى في مجال الفقه أيضاً برفضه لحجّيّة خبر الواحد ووضعه لأُطروحة حجّيّة الخبر المتواتر ـ التي فيها كثير من التأكيد على حجّيّة الإجماع وقواعد اخرى من هذا النمط ـيحاول تقريب قواعدنا في الفهم الفقهي الى قواعد الفهم الفقهي لأهل السنّة.

ومن الميزات الاخرى للشريف المرتضى انه وعلى الرغم من هذا التقارب والسعي نحو ايجاد تفاهم منهجي مع أهل السنّة، غير انه من حيث المحتوى والمضمون حافظ على تلك المسافة من فقه وكلام أهل السنّة. بمعنى ان ذلك التقارب المنهجي لم يكن يعني التقارب العلمي والتلاقي في المحتوى، وانما كان الشريف المرتضى من الشخصيات البارزة التي رفعت راية ترسيخ الاصول الكلامية والفقهية للشيعة وتحدث بكل شفافية ووضوح في مواجهة تعاليم المنافسين السنّة.

ومن الخصائص الاخرى التي تميز بها الشريف المرتضى في مجال علم الكلام هو «السعي لتقليل المدّعيات الكلامية عند الإمامية إلى الحدّ الأدنى». فكلام الإمامية إلى ما قبل نشوء مدرسة بغداد، كان يبتعد بمسافة واسعة وعميقة عن التيارات الكلامية الاخرى وخاصة عن التيار الكلامي لأهل السنة وقد حاول الشريف المرتضى التمسّك بقوة الاصول السياسية للتشيّع من خلال الأخذ بالأوجه المشتركة بين بعض الاصول من جهة والتغاضي عن بعض خصوصيات اعتقادات الإمامية. ومن هذا المنطلق فقد كان الشريف المرتضى يقوم بعملين في وقت واحد، الأوّل: هو الاستفادة في الجانب المنهجي من القواعد والاسس التي يمكن أن تكون مقبولة لدى الآخرين. والثاني: من حيث المحتوى والمضمون كان يحاول التركيز على الاصول والقواعد من كلام الإمامية التي يمكن أن تُحافظ على خيمة التشيّع مرفوعة فوقها، بدلاً من الخوض في تفاصيل مدّعيات الإمامية ـ التي كانت سائدة في مذاهبنا الفكرية في الكوفة وقم. وقد عبّرت أنا عن هذا الاسلوب بعبارة «تقليل المدعيات الكلامية عند الإمامية إلى الحد الأدنى».

* يبدو أن بعض أعمال الشريف المرتضى كانت من ابتكاراته ولم يكن لها وجود في تاريخ الكلام الشيعي قبله. وقد اشرتم في سياق حديثكم إلى بعض منها، واودّ هنا ان تركزوا أكثر على هذه الابتكارات.

إن بعض هذه الابتكارات ليست بالضرورة من ابداعه أساساً، وانّما مستقاة من تجارب الآخرين وأفكارهم ولكنّه وطّنها وأدخلها في الفكر الإمامي. نذكر من ذلك على سبيل المثال انه من حيث الجانب المنهجي يعطي الشريف المرتضى أهمية فائقة للعقل في المباحث الكلامية، ويقلل أو ينكر اهميّة حاجة العقل إلى الوحي في الاسس الكلامية. نحن نعلم انه إلى ما قبل الشريف المرتضى كان المنهج الكلامي عند الإمامية وحتى في فكر الشيخ المفيد مرتبطاً إلى حدّ بعيد بالنصوص الوحيانية وكانت جهود علماء الشيعة تنصبّ على الدوام على جانب الاستعانة بالمصادر الوحيانية وتعميق المعارف العقلية ـ التي كان القدماء يطلقون عليها تسمية «السمع»، مع التأكيد في الوقت ذاته على استقلال العقل. وقد جابه الشريف المرتضى هذه التوجهات بشدّة في كتبه ومؤلفاته، واكد على استقلال العقل وغناه عن النقل.

ثم هناك أيضاً إنکار المعرفة الإضطرارية وحصر المعارف بالمعرفة الإکتسابية، يمثّل واحداً آخر من الاصول والمبادئ التي اختصّ بها الشريف المرتضى. هذا الموضوعيرتبط الى حدّ ما بانکار العوالم السابقة (عالم الأرواح وعالم الذرّ)ـ وهو رأي آخر من آراء السيّد. طبعاً في هذين البحثين الأخيرين، يبقى الى حدّ بعيد رهين استاذهالشيخ المفيد؛ غير أن ما يميّز السيد حتىعن استاذه انکارهاستقلال الروح وأصالة البدن في باب حقيقة الإنسان. وقد طرحت هذه الفكرة من قبله لأوّل مرّة في تاريخ الشيعة. وقبل ذلك كانت هذه الفكرة شائعة بين المعتزلة فقط.

وأما في ما يخصّ إنکار حجّيّةخبر الواحد، يبدو أن مثل هذا الرأي قد طرُح لأوّل مرة في فکر الإمامية.

طبعاً في عصر الحضور كان الشيعة يقولون بعدم حجية خبر الواحد؛ غير ان حجية خبر الواحد التي كان الشيعة ينكرونها قبل الشريف المرتضى، يقصدون به الخبر الذي ينقل عن طريق آحاد الرجال كما يقول أهل السنّة. وقد طرح الشيخ المفيد تبييناً لهذه المسألة وهو ان خبر الواحد إذا كان محفوفاً بالقرائن القطعية فهو مقبول وفقاً للمباني الشيعية، غير ان الشريف المرتضى رفض كلياً قبول خبر الواحد وحتى انه لم انكر قدرة خبر الواحد على ايصالنا إلى اليقين حتى وان كان محفوفاً بالقرائن. وهكذا يتضح لنا أن حصر حجية الأخبار بالخبر المتواتر من الامور التي جاء بها الشريف المرتضى إلى الشيعة.

ومن الابتكارات الاخرى للشريف المرتضى كثرة تأكيده على اصل اليقين؛ حيث يعتقد ان الجهود العلمية سواء في الكلام أم في الفقه ينبغي ان تنتهي بنا إلى اليقين. ومن وجهة نظره الوصول إلى اليقين يتطلب أدوات وأساليب يختلف بعضها عن الارث التاريخي للفكر الإمامي.

ومن الابتكارات أو الامور الاخرى التي جلبها الشريف المرتضى إلى الفكر الإمامي، مسألة الاجماع؛ فهو يرى الاجماع في ظروف معيّنة يمكن أن يوصلنا إلى اليقين. وإذا تخطينا البحوث المنهجية يمكن القول تقريباً ان الشريف المرتضى طرح في الكثير من المواضيع الكلامية تبيينات أو تعليقات جديدة. ونادراً ما نواجه مسألة كلامية إلا ونرى فيها ما يدلّ على كثرة ما بذله فيها الشريف المرتضى من جهود بالغة.

من الضروري طبعاً من الاشارة إلى ملاحظة وهي أن ما نبديه نحن من أحكام في هذا المجال لا يمكن أن تكون كاملة؛ وذلك لعدم توفّر التراث الكلامي السابق على الشريف المرتضى في أيدينا بالنحو المطلوب ولا نعلم هل بعض ما جاء به الشريف المرتضى كان موجوداً في ماضينا التاريخي أم لا. ولكن على العموم يمكن اصدار حكم شامل وهو ان كل واحدة من القضايا الكلامية أو حتى الفقهية التي تناولها الشريف المرتضى إلا ودأب فيها على ترسيخ وتحقيق ذلك الإطار الجديد المعرفي والكلامي الخاص به.

* حدّثْنا عمّا كان للشريف المرتضى من تأثيرات في المجتمع الشيعي المعاصر له. كما اشرت ان احدى خصائص الشريف المرتضى انه يعد من الشخصيات التي احدثت تحوّلاً في المجتمع الشيعي في عصره ليس من حيث الجانب التأسيسي فقط وانّما من حيث التأثير أيضاً.

لدينا الكثير من الشخصيات الكبرى تجلّى تأثير أفكارها في مسار تاريخ الحوزات العلمية بشكل تدريجي، بَيْدَ ان الشريف المرتضى بفعل ما كان له من مكانة اجتماعية وعلاقته العائلية مع الجماعات ذات السطوة والنفوذ في أوساط مجتمع بغداد يومذاك ـ حيث ان على علاقات مع الزيديين من جهة وكانت له من جهة اخرى صلات مع جهاز الخلافة ـ وبسبب شخصيته الفذة والفريدة وما كان له من نفوذ مادي ومعنوي فائق في المجتمع آنذاك سرعان ما أخذت أفكاره مأخذها في ذلك المجتمع حتى غدت معياراً ومقياساً للفكر الشيعي. نذكر كمثال على ذلك أن الشريف المرتضى كان تلميذاً للشيخ المفيد وكان ينظر إليه بعين الاحترام والتبجيل، غير ان الأكثرية العظمى من تلاميذ المفيد وخاصة الشبّان منهم أصبحوا تحت تأثير الشريف المرتضى، وعند الوقوف بين هذا وذاك كان اختيارهم يقع على الشريف الرضي؛ نذكر منهم ابا الصلاح الحلبي، والشيخ الطوسي، وغيرهما حيث انهم أبدوا ميلاً نحو الشريف المرتضى في حقل علم الكلام.

الملاحظة الاخرى التي تتصف بأهمية فائقة هي ان الاطر الكلامية التي وضعها وآرائه الفكرية بقيت حيّة على مدى خمسة قرون ويُنظر إليها كمعيار للفكر الشيعي. وهذا الثبات والديمومة لمدرسة كلامية قد لا نجد له نظيراً في تاريخ الفكر الإمامي.

* المدارس الكلامية الشيعية الرئيسية هي مدرسة البغداديين ومدرسة القميين، ما هي مكوّنات هاتين المدرستين في رأيكم؟

لقد بحثت هذا الموضوع بالتفصيل في موضعه. وجه الاشتراك بين هاتين المدرستين هو انهما يسيران بالتوازن وفي ظروف واجواء مختلفة نحوإعادة صياغة المدرسة الكلامية والفقهية الإمامية. وبعبارة اخرى ان وضع صياغة الفكر الكلامي والفقهي الإمامي يتوقف على هاتين المدرستين، ولكن بتوجّهين مختلفين تماماً. مدرسة قم صاحبة تراث نهجنا الحديثي الكلامي وغايتها استخراج منظومتنا الفكرية من الكتاب والسنّة، وطرح المكوّنات الخاصة بالإمامية كمعالم لهذه المدرسة. وأما في بغداد فالتركيز الأساسي ينصبّ على الاصول المشتركة القادرة على نقل الفكر الإمامي إلى مجتمع آخر غير شيعي. وبعبارة اخرى يمكننا القول ان هاتين المدرستين تحملان رسالتين كلاميتين مختلفتين، مدرسة قم غايتها تبيين أفكار الإمامية وطرحها في أوساط المجتمع الشيعي. وفي المقابل ترمي مدرسة بغداد إلى صياغة هذه الأفكار وطرحها في وسط اجتماعي غير شيعي.

هذين الاتجاهين يؤسسان منهجين مختلفين في الفهم الكلامي وينتهيان بنا بالنتيجة إلى منظومتين فكريّتين مختلفتين نسبياً. ومن أوجه الاختلاف الاخرى بين هاتين المدرستين ـ عدا الجانب المنهجي الذي سبق شرحه ـ هو ان مدرسة بغداد وانطلاقاً من توجهها لايصال الفكر الشيعي إلى مجتمع غير شيعي، لذلك فهي تكتفي بالحد الأدنى من كلام الإمامية، في حين ان مدرسة قم فهي تعمل بفكرة الحد الأعلى وذلك لأنها تمارس دورها في وسط شيعي.

ومن الميزات الاخرى التي تتصف بها كل واحدة من هاتين المدرستين هي ان مدرسة قم تتمسّك بتراثنا الحديثي بشدّة وتحرص على بحثه ونقده وتهذيبه وتقدّم لنا في الختام سلّة نقيّة خالصة من هذا التراث، بينما تؤدّي مدرسة بغداد هذا الدور في الجانب العقلي وتحرص على صياغة وطرح الاصول والمبادئ العقلية للإمامية.

* نظراً إلى ما يوجد من التفاوت بين مدرستي بغداد وقم، من هي المدرسة التي تفضّلونها انتم على الصعيدين النظري والعملي؟

حسب رأيي ـ كما اشرت من قبل ـ ان لكل واحدة من هاتين المدرستين حسناتها ونواقصها. وإن شئت الافصاح عن رأيي بكل صراحة وجرأة لقلت ان احدى الازمات المعرفية والعلمية التي يشهدها الوسط الشيعي تتمثل في هذا الشرح الواسع الذي نشأ منذ عهد مدرستي قم وبغداد؛ أي ان ما كان قبل ذلك في درسة الكوفة من منهج متكامل ومتمازج في الفكر الإمامي، تحوّل إلى منهجين متفاوتين وأدّى إلى شقّ الوسط العلمي الشيعي إلى قسمين.

نحن بحاجة إلى دمج فاعل ومؤثر بين منهجي قم وبغداد، وهذا طبعاً يتطلّب مزاوجة منظومية بين معطيات هاتين المدرستين. من المؤسف ان الفصل بين الاتجاه النقلي والاتجاه العقلي في هاتين المدرستين قد استمر إلى عصرنا الحالي ولم نتمكن من رأب هذا الصدع. ينبغي أن نستقي النظرة الاجتهادية والفهم المبني على النصّ، والدقّة في صياغة المصادر والنصوص الوحيانية من مدرسة قم، من جهة، وينبغي من جهة اخرى تعلّم النظم المعرفي ووضع نظام معرفي عقلي من مدرسة بغداد.

يبدو ان هذين العملين يمكن تحقيقهما في ظل الظروف التي تعيشها أوساطنا العلمية، لا بل ليس أمام التشيّع سوى هذا الطريق في ضوء الظروف في وقتنا الحالي.

* ما هي أفكار وتوجهات الشريف المرتضى الأكثر فائدة لعصرنا الحالي؟ مجتمعنا الشيعي في الوقت الحاضر. الظروف التي مرّت بها بغداد في ذلك الوقت تشبه إلى حدّ بعيد الظروف التي يشهدها عالم اليوم. في ذلك الوقت تسلّم الشيعة الحكم بعد فترة من الابتعاد عن سدّة الحكم وتهيّأت له ظروف جديدة للظهور والتأثير. فاستثمر الشريف المرتضى تلك الفرصة وجعل من أجواء بغداد ـ المتداخلة والمتصارعة ـ أرضية ألقى فيها قراءة وتبييناً جديداً للفكر الشيعي. وهو تبيينٌ حُفظت فيه اصول التشيّع بتمامها وكمالها، وفي الوقت ذاته كان قابلاً للفهم والادراك من قبل الآخرين ومن قبل الخصوم. هذا الجانب من فكر الشريف المرتضى ينبغي اتخاذه اليوم مثالاً ونموذجاً لإعادة طرح نظام الفكر الشيعي بما يتناسب مع المتطلبات والمتلقّين من غير الشيعة في عالم اليوم.

الجانب الثاني الذي ينبغي اتخاذه مثالاً ونموذجاً هو الحضور الاجتماعي للشريف المرتضى. التجربة التي عاشها الشريف المرتضى انه كان ذلك العالم الشيعي الذي يطرح الرؤى والنظريات ويبني اسس مدرسة فكرية، وفي الوقت ذاته يوظف مكانته وسلطته الاجتماعية أيضاً لنشر أفكاره.

ومن الاصول الاخرى التي يمكن أخذها عن الشريف المرتضى تأكيده على الإرث الحقيقي للفكر الشيعي. من المؤسف ان شخصيّاتنا العلمية أما تنقطع عن العالم الخارجي كليّاً وتنكفئ نحو ذاتها ـ وهو ما يتمخص عنه نوع من الابتعاد عن الواقع والميل نحو الاتجاه الفكري والانتزاعي ـ أو قد تندفعون إلى الوقوع في الاستحالة الفكرية والتنصل عن اطرهم النظرية بمجرّد الدخول في المعترك الاجتماعي، وذلك بسبب الضحالة والسطحية. بينما نلاحظ ان الشريف المرتضى في ذات الوقت الذي كان يتعاطى فيه علمياً مع جماعات فكرية مختلفة، او انه كان يستقي منها القواعد المنهجية بكل جرأة غير انه يتراجع عن متبنّياته الاساسية. والمثال الواضح على هذا القول شدّة تأكيده على مسألة الإمامة. فقضية الإمامة في فكر الشريف المرتضى ومواجهته لشخصيات مثل القاضي عبد الجبار يعتبر درساً بليغاً في هذا المضمار. الإمامة بالنسبة إلى الشريف المرتضى أصل أساسي لا يتراجع عنها. والمثال الآخر في ذلك مسألة >البراءة<. فالشريف المرتضى يتخذ ازاء مسألة البراءة موقفاً معاكساً لما يظنه البعض بشأنه؛ فعلى الرغم من نظرته التقريبية بين المذاهب ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ إلا انه يتخذ بازاء مسألة البراءة واحداً من أشد الآراء المتشدّدة ويبرز بكل وضوح الخط الفكري لأهل البيت في مقابل التيار المخالف، ويؤكد على هذا الأصل باعتباره خطّاً فاصلاً.

* في الختام إن كان لديكم شيء آخر تودّون ذكره.

الملاحظة الاخيرة لدي هي عبارة عن مجموعة من التوصيات للباحثين الذين يعملون في هذا المجال. فأنا اعتقد اننا حتى الآن لم ننظر إلى شخصية الشريف المرتضى نظرة منظومية وشاملة. هناك بحوث اُنجزت في هذا المجال غيرأنها ناقصة. أتمنى ان يتمخّض عن هذه التحقيقات عمل أو أعمال قادرة على التعريف بشخصية الشريف المرتضى في جميع الجوانب والأبعاد.

وتوصيتي الاخرى إلى الباحثين في حقل الكلام هي ان يتعرّفوا على الأدبيات الكلامية للشريف المرتضى. مما يدعو إلى الأسف ان حوزاتنا العلمية قد غفلت كلياً على مدى قرون عن الأدبيات الكلامية للخواجة الطوسي. فاليوم حتى بعض الاساتذة والباحثين البارزين غير قادرين على فهم تراث الشريف المرتضى؛ ولذلك تُفهم هذه الآثار بشكل مغلوط أحياناً.

وهنا اودّ التأكيد على هذه الملاحظة وهي أن الأدبيات الكلامية قبل الخواجة الطوسي تتفاوت كلياً عن الأدبيات التي كُتبت من بعده. فعلى الباحثين أن لا يُخدعوا بالألفاظ المشتركة؛ إذ ان لكلّ واحدة منها استعمالها في موضعها. ولهذا فنحن بحاجة لوضع معجم للمصطلحات الكلامية عند الإمامية في دور الشريف المرتضى. ولو ان هذا العمل يُنجز في إطار هذا المؤتمر وفي سياق هامش المؤتمر لكان فيه انجاز مفيد للاجيال القادمة.

* نتقدم بالشكر لكم ولجميع الزملاء العاملين في هذا المشروع العلمي والثقافي.

نشكرك شكراً جزيلاً على اتاحة هذه الفرصة.